إنقاص الوزن يعد إنجازاً كبيراً للكثيرين، إلا أن التحدي الأكبر يكمن في الحفاظ على هذا الوزن الجديد. تشير الدراسات إلى أن الغالبية العظمى ممن يخسرون الوزن يستعيدونه خلال سنوات قليلة. تظهر إحدى الإحصائيات أن حوالي 90% من الأشخاص الذين خسروا الوزن يعودون إلى وزنهم السابق أو يزيدون عليه. هذه الظاهرة تُعرف بـ “اليويو دايت” أو “الدورات المتكررة للوزن”، وهي لا ترتبط فقط بالمظهر، بل تؤثر أيضاً على الصحة البدنية والنفسية. في هذا المقال نتعمق في الأسباب العلمية التي تجعل الوزن يعود بعد الحمية، ونقدم حلولاً عملية للحفاظ على الوزن بشكل مستدام.
دورة الوزن المتكرر
يفرح الكثير من الناس عندما يرون أوزانهم تنخفض بعد اتباع نظام غذائي أو برنامج رياضي، لكن بعد فترة يعود الرقم على الميزان للارتفاع. هذا الارتفاع لا يحدث بسبب قلة الانضباط أو إرادة الفرد فقط، بل نتيجة مجموعة معقدة من العوامل البيولوجية والهرمونية والنفسية والبيئية. أجسامنا مصممة تاريخياً لتخزين الطاقة وحمايتها في أوقات النقص الغذائي، لذلك عندما يكتشف الجسم أنه يفقد مخزوناته من الدهون، يبدأ في إرسال إشارات لاستعادة هذه المخازن.
أولاً: الأسباب البيولوجية والأيضية لعودة الوزن
1. التكيف الأيضي (Adaptive Thermogenesis)
بعد فقدان الوزن، ينخفض معدل الأيض الأساسي (Basal Metabolic Rate)، وهو كمية السعرات التي يحرقها الجسم في الراحة. كلما انخفضت كتلة الجسم، يحتاج الجسم إلى طاقة أقل للحفاظ على وظائفه. لكن الأبحاث تشير إلى أن الانخفاض في معدل الأيض بعد الحمية غالباً ما يكون أكبر مما تتوقعه الحسابات. يُعرف هذا بانخفاض “التوليد الحراري التكيفي”. تشير دراسات إلى أن نحو 90% من الأشخاص الذين يفقدون الوزن يعيدون اكتسابه بسبب الانخفاض في إنفاق الطاقة الناتج عن هذا التكيف. يُعتقد أن هذا التكيف هو آلية دفاعية للجسم للحفاظ على الطاقة والعودة إلى وزن “محدد” يعتقد الجسم أنه آمن.
2. تغير الهرمونات المسؤولة عن الشهية والشبع
فقدان الدهون يؤثر على عدة هرمونات:
- اللبتين (Leptin): يُفرز من الخلايا الدهنية ويعطي إشارات للدماغ بأن الجسم ممتلئ. عندما تنخفض الدهون، يقل إفراز اللبتين، ما يؤدي إلى زيادة الشهية والرغبة في الأكل.
- الغريلين (Ghrelin): يُعرف بـ “هرمون الجوع”، ويزيد إفرازه عندما تكون المعدة فارغة. عند فقدان الوزن، يرتفع الغريلين، فيرسل للدماغ إشارات لزيادة تناول الطعام.
- هرمونات الشبع الأخرى: مثل PYY وGLP-1 تنخفض مع فقدان الوزن، مما يقلل الإحساس بالشبع.
- الهرمونات الدرقية: مع فقدان الوزن، قد تنخفض مستويات هرمون T3، ما يؤدي إلى تباطؤ التمثيل الغذائي.
هذه التغيرات الهرمونية تجعل الشخص يشعر بالجوع ويدفعه لتناول كميات أكبر من الطعام، حتى لو كان يحاول الالتزام بالنظام الغذائي.
3. “ذاكرة السمنة” في الجهاز المناعي والميكروبيوم
أشارت مراجعة حديثة إلى أن الجهاز المناعي قد يكوّن “ذاكرة للسمنة”؛ إذ إن بعض الخلايا المناعية تحتفظ بمعلومات حول حالة الجسم خلال السمنة، وتعيد تنشيط استجابة التهابية عند عودة الظروف الغذائية نفسها. كذلك قد يلعب الميكروبيوم المعوي (مجتمع البكتيريا في الأمعاء) دوراً في تنظيم الوزن. عندما يفقد الشخص الوزن، تتغير تركيبة الميكروبيوم. إذا عاد إلى عادات غذائية سابقة، قد تساهم البكتيريا في تحسين امتصاص الطاقة وزيادة الوزن مجدداً.
4. فقدان الكتلة العضلية
يستهدف الجسم الدهون والعضلات أثناء فقدان الوزن، خاصة في الحميات القاسية، إذا فقد الشخص قدراً كبيراً من الكتلة العضلية، فإن معدل الأيض سينخفض بدرجة أكبر، ما يسهل استعادة الوزن. ربطت الدراسات بين نسبة فقدان الكتلة العضلية والوزن الذي يعود بعد الحمية؛ كلما كانت نسبة العضلات المفقودة أكبر، ازداد احتمال اكتساب الوزن.
5. التوتر واضطراب النوم
يرتفع هرمون الكورتيزول عند التعرض للتوتر، ما يزيد من رغبة الشخص في تناول الأطعمة الغنية بالسكر والدهون. كما أن قلة النوم تؤدي إلى ارتفاع الغريلين وانخفاض اللبتين، مما يزيد الشهية. التوتر المستمر والنوم غير الكافي قد يفسدان أي نظام غذائي ويؤديان إلى استعادة الوزن بسرعة.
ثانياً: الأسباب النفسية والسلوكية
1. الحميات القاسية غير المستدامة
العديد من الأنظمة الغذائية تفرض قيوداً صارمة على السعرات أو تستبعد مجموعات غذائية كاملة، رغم فعاليتها في إنقاص الوزن بسرعة، إلا أنها تصعب الاستمرار عليها. عندما يتوقف الشخص عن الحمية القاسية، غالباً ما يعود إلى عاداته الغذائية السابقة ويكتسب الوزن بسرعة، وقد يكتسب أكثر مما فقد.
2. غياب الدعم الاجتماعي
الدعم من الأسرة والأصدقاء ومقدمي الرعاية الصحية يلعب دوراً هاماً في الحفاظ على الوزن. الأشخاص الذين يفتقرون للدعم قد يجدون صعوبة في الالتزام بنمط حياة صحي عندما يواجهون ضغوط العمل أو الالتزامات العائلية.
3. عدم تطوير عادات جديدة
الرجوع إلى السلوكيات القديمة، مثل تناول الطعام في وقت متأخر من الليل أو تناول الوجبات السريعة، يؤدي إلى استعادة الوزن. عدم تطوير عادات طويلة الأمد مثل تحضير الوجبات الصحية وممارسة الرياضة بانتظام يجعل السيطرة على الوزن صعبة.
4. الأكل العاطفي
يعتمد بعض الأفراد على الطعام كوسيلة للتعامل مع المشاعر مثل الحزن أو القلق. هذا النمط يؤدي إلى تناول سعرات زائدة، خاصة من الأطعمة الغنية بالسكريات والدهون، ما يسهم في استعادة الوزن.
ثالثاً: حلول عملية لتجنب استعادة الوزن
1. اعتماد نظام غذائي متوازن طويل الأمد
بدلاً من الحميات القاسية قصيرة المدى، يُنصح باتباع نظام غذائي متوازن يمكن الاستمرار عليه مدى الحياة. يشمل ذلك تناول كمية كافية من البروتين، حيث أثبتت الأبحاث أن الأنظمة الغذائية عالية البروتين تزيد من معدل الأيض وتحافظ على الكتلة العضلية، وتقلل من الشعور بالجوع. اختيار الأطعمة الكاملة (الخضروات، الفواكه، الحبوب الكاملة، الدهون الصحية) وتجنب الأطعمة المصنعة هو أساس النظام الصحي.
2. الحفاظ على كتلة العضلات عبر تمارين المقاومة
ممارسة تمارين المقاومة (مثل رفع الأثقال أو استخدام وزن الجسم) تمنع فقدان الكتلة العضلية، وبالتالي تحافظ على معدل الأيض مرتفعاً. ينصح بممارسة تمارين المقاومة 2–3 مرات في الأسبوع. التمارين الهوائية مثل المشي السريع أو السباحة تكمل هذا الجهد، لكنها أقل فعالية في بناء العضلات.
3. تناول وجبات منتظمة وتخطيط مسبق
تناول الوجبات في أوقات منتظمة يساعد في تنظيم هرمونات الجوع والشبع. يمكن لترك فترات طويلة بين الوجبات أن يزيد الشهية ويدفعك لتناول كميات أكبر. التخطيط المسبق للوجبات يجنب الوقوع في اختيارات غير صحية عندما تكون جائعاً.
4. مراقبة الوزن والقياسات
تتبع الوزن والقياسات بانتظام (مثل مرة أسبوعياً) يساعدك على اكتشاف أي زيادة مفاجئة واتخاذ إجراءات مبكرة. لكن لا يجب أن يكون الميزان هو المقياس الوحيد، فبناء العضلات قد يزيد الوزن، لذلك يُنصح بمراقبة نسبة الدهون والعضلات عبر فحوصات قياس تكوين الجسم.
5. النوم الكافي وإدارة التوتر
الحصول على 7–9 ساعات من النوم الجيد يعيد توازن هرمونات الجوع ويقلل الرغبة في تناول الطعام. تقنيات إدارة التوتر مثل اليوغا، التأمل، وتمارين التنفس تساعد في خفض مستويات الكورتيزول، مما يقلل من الشهية العاطفية.
6. تناول البروبيوتيك والألياف لتعزيز صحة الأمعاء
الجهاز الهضمي يلعب دوراً في استقرار الوزن، تناول الأطعمة الغنية بالبروبيوتيك (مثل الزبادي، الكيمتشي) والألياف (الشوفان، البقوليات، الخضروات) يدعم الميكروبيوم الصحي وقد يساعد في التحكم بالوزن. يذكر أن صحة الجهاز الهضمي قد تكون مرتبطة بعودة الوزن بفضل “ذاكرة السمنة” في الجهاز المناعي والميكروبيوم.
7. استهداف معدل فقدان وزن معقول
يُنصح بفقدان الوزن تدريجياً بمعدل 0.5–1 كغ أسبوعياً، فقدان الوزن بسرعة عالية يزيد خطر فقدان العضلات ويؤدي إلى استجابة جوع قوية، ما يُسهّل استعادة الوزن، النظام التدريجي يسمح للجسم بالتكيف، ويقلل من استثارة آليات الدفاع الأيضي.
8. الحفاظ على المرونة النفسية
تقبل فكرة أن الحياة مليئة بالمناسبات والضغوط التي قد تخرجك عن النظام الغذائي مؤقتاً، الأهم هو العودة مرة أخرى إلى السلوك الصحي دون إحساس بالذنب. يعتبر التعلم من الأخطاء وتطوير استراتيجيات للتعامل مع الانتكاسات خطوة مهمة.
9. الدعم المهني والجماعي
العمل مع اختصاصي تغذية أو مدرب شخصي أو الانضمام إلى مجموعات دعم يساعد في التمسك بالأهداف، تشير الدراسات إلى أن الأشخاص الذين يشاركون في برامج متابعة منتظمة هم أكثر قدرة على الحفاظ على الوزن.
10. الفحوصات الطبية الدورية
بعض الحالات الطبية مثل قصور الغدة الدرقية أو متلازمة كوشينغ قد تسبب زيادة الوزن أو تثبط عملية فقدانه، إجراء فحوصات منتظمة واستشارة الطبيب عند الشعور بالتعب الدائم أو صعوبة فقدان الوزن يساعد في الكشف عن أي اضطرابات هرمونية أو صحية.
رابعاً: استراتيجيات التغذية المساعدة
زيادة تناول الألياف
الألياف تزيد من الشبع وتبطئ امتصاص السكر وتدعم الميكروبيوم المعوي. توصي الإرشادات بتناول 25–30 غراماً من الألياف يومياً، تشمل المصادر الخضروات الورقية، الشوفان، الحبوب الكاملة، الفواكه مثل التفاح والكمثرى، والبقوليات.
التحكم في الكربوهيدرات وتفضيل الأنواع المعقدة
اختيار الكربوهيدرات ذات مؤشر جلايسيمي منخفض، مثل الكينوا، الأرز البني، البطاطا الحلوة، يساعد في السيطرة على مستويات السكر والأنسولين، ما يقلل من تخزين الدهون، كما يمكن توزيع الكربوهيدرات على مدار اليوم وتناولها بعد التمارين لتحسين استخدام الجلوكوز في بناء العضلات.
تناول الدهون الصحية
الدهون غير المشبعة المفيدة (أوميغا‑3 وأوميغا‑9) تساعد في تحسين صحة القلب وتزيد من الشبع، تشمل مصادرها الأسماك الدهنية، المكسرات، البذور، زيت الزيتون، والأفوكادو. يجب تجنب الدهون المهدرجة والزيوت النباتية المكررة التي قد تزيد الالتهاب وتعرقل فقدان الوزن.
شرب الماء بكثرة
الماء ضروري لكل العمليات الحيوية ويساعد في إدارة الوزن، شرب الماء قبل الوجبات يقلل من تناول الطعام ويساعد في الشعور بالامتلاء، استبدال المشروبات السكرية بالماء أو الشاي العشبي يزيل مصدرًا كبيرًا من السعرات الفارغة.
مراقبة السعرات دون تطرف
يمكن استخدام تطبيقات تتبع السعرات لمعرفة الكميات الفعلية التي يتم تناولها، لكنها يجب أن تكون أداة لمعرفة العادات وليس للتقيد الصارم، الهدف هو خلق وعي غذائي طويل الأمد وليس حساب كل لقمة.
خامساً: دور الجينات والبيئة
تؤثر العوامل الوراثية على شكل الجسم ومعدل الأيض واستجابة الجسم للأطعمة، بعض الأشخاص لديهم ميل وراثي لتخزين الدهون أكثر من غيرهم. لكن الجينات ليست مصيراً محتوماً؛ بإمكان التغذية الصحيحة والتمارين أن تعدل التعبير الجيني عبر الآليات البيولوجية مثل “الإبيجينيتكس”. البيئة أيضاً لها دور كبير: انتشار الأطعمة السريعة، قلة المساحات الخضراء، الإعلانات، وثقافة الجلوس المطول كلها عوامل تشجع على عودة الوزن. التعامل مع هذه العوامل يتطلب وعيًا جماعيًا وسياسات تشجع على صحة المجتمع.
خاتمة
عودة الوزن بعد الحمية ليست مجرد نتيجة لضعف الإرادة، بل هي تفاعل معقد بين عوامل بيولوجية وهرمونية وسلوكية وبيئية. التكيف الأيضي، التغيرات في الهرمونات مثل اللبتين والغريلين، فقدان الكتلة العضلية، ذاكرة السمنة في الجهاز المناعي والميكروبيوم، والعادات الغذائية غير المستدامة كلها تلعب دوراً في هذه الظاهرة
لتحقيق فقدان وزن دائم، يجب اتباع استراتيجية شاملة تشمل نظامًا غذائيًا متوازنًا غنيًا بالبروتين والألياف والدهون الصحية، ممارسة التمارين المقاومة والهوائية _تعرف على الفرق بين التمارين الهوائية وتمارين المقاومة_، النوم الكافي، إدارة التوتر، والدعم الاجتماعي. التركيز على التغيير السلوكي البعيد المدى بدلاً من الحلول السريعة يمنح الجسم وقتًا للتكيف ويحافظ على التوازن الهرموني، ما يقلل من احتمالية استعادة الوزن ويعزز الصحة العامة.
اقرأ أيضاً:

